الأحد، 27 ديسمبر 2015

البـــرواز







البرواز

يمر كل يوم على ذلك الحائط في طريقه من الباب الداخلي للبيت وهو يدلف للصالة الفسيحة، لا ينظر للحائط الأيسر من الممر الواسع، يضع المفاتيح على الطاولة التي تنتصب مرآة كبيرة فوقها. ككل يوم من أيام الأسبوع، تصل قبله فيجدها بانتظاره على طاولة الغداء مع صغيرها علي. تحتضن زوجها وتُقبله، التحية المعتادة لهما حتى وهي عند أهلها، تُحب أن تُعبّر عن حبها له بكل الطرق حتى تلك التي تجعله يحمر خجلاً من أبيها. أخبرها مراراً أنه لا يحب أن تترك ذلك البرواز معلقاً هناك يشاهده كل يوم في طريق دخوله وخروجه من البيت، تُصر هي على أن تبقيه معلقاً. لقد كان رفيقها طيلة عام ونصف العام عندما غاب هو عنها وتركها معلقة كسحابة صيف لا هي قد أمطرت ولم تهب الريح لتأخذها لأرض جديدة. يقول هو بأنها تريد أن تبقيه متألماً لما حدث، تُذكره بخطيئة لا نصيب لها من الغفران، وتُصر هي دوماً بأنها تُحبه للدرجة التي تجعلها تتمسك ببقاء البرواز على الجدار الأيسر، تقول إن كل الأشياء الأثيرة لها بوصلة اليسار، كحبها له الذي يسكن في الجانب الأيسر من صدرها.

**

كان نقل الحقائب ودولاب الكتب إلى الغرفة الجديدة مرهقاً. استدعت إحدى صديقاتها لتساعدها في تفريغ الغرفة القديمة والانتقال إلى السكن الجديد المخصص لموظفات الشركة. لم يكن السكن يبعد كثيراً، عشر دقائق فقط عن الحيل الجنوبية. تمت العملية في ساعتين، الغرفة الجديدة أوسع ولها دورة مياه خاصة، كما أنها ستحظى بفرصة العيش فيها لوحدها دون أن تشاركها زميلة أخرى في إشغال المساحة الضيقة. تتذكر قول أمها لها، «الوسع وسع القلوب يا ابنتي». بالرغم من الامتيازات التي ستحظى بها في السكن الجديد إلا أنه قد أخافتها هذه العزلة المفاجئة، كانت ستمسك بيد صديقتها قبل أن تغادر الغرفة لتطلب منها أن تجلس معها بعض الوقت. ومع أنها لم تعد تُشارك صديقاتها كثيراً إلا أن حضورهن وقضاء الوقت بصحبتهن كان يشغل عقلها عن التفكير المتواصل. ساعدها ذلك في تناسي الفقد والخذلان الأليم الذي ألمّ بها قبل أشهر. الآن أصبحت تقارع غربة أخرى. تمنت لو أنها لم تنتقل للمكان ليلاً، تخاف وحدة الليل ولأشهر كانت تُغمض عيونها للنوم عندما يتسلل نور الشمس فجراً.

جلست على طرف الكنبة التي تتوسط الغرفة الجديدة تُسمّر نظرها على الأغراض المبعثرة بانتظار أن ترتبها يد الساكن الجديد. حتى أنها لم تتفحص أغراض الغرفة ولم تتفقد بفضولها المعتاد دورة المياه ولا الدولاب الكبير، كانت تفعل ذلك دائماً كلما ذهبت إلى مكان جديد، تحب أن تُخلّف ألفة مع المكان. تُمسك بعلبة الحذاء الفارغة التي وضعت بداخلها باقة وردة يابسة، تركتها منذ خمسة أشهر ببطن الثلاجة في غرفتها القديمة حتى لا تتلف. قبل اليوم لم تكن تعني لها باقة ورد أي شيء، ولا تدري حقاً لمَ هذه الباقة دون غيرها حظيت بعنايتها. تؤمن فَلَك بأن للأقدار ذكاء يستعصي على بني البشر، هذه الباقة هي آخر ما وصلها من خطيبها. مع أنه قد ذهب وأخبرها بأنه لا يعدها بأي شيء وأن عليها أن تتعامل مع الوضع كأنه لم يكن يوماً في حياتها لسبع سنين ونيف، إلا أنها لم تستطع أن تترك تلك الباقة خلفها وهي تجر كل ما يخصها خارج تلك الغرفة، تركت وراءها فقط بعض الأحلام والأمنيات والغزل العفيف الذي تشرّبته الغرفة لعام كامل عندما انتقلت إليها وحملت معها كل الخذلان والفقد الذي خلّفه لها عبدالله وهي تغادرها. أخبرته كثيراً أنها امرأة لا يُعبث معها في أمر الغياب، وكان يخبرها في المقابل أنها ستصبح أقوى بعد كل شيء. قويةٌ لكن بدون قلب، هكذا كانت تُجيبه. وفي نهاية محاولاتها لفهم كيف تستحيل القلوب المُحبة لكل تلك القسوة كانت تلوذ بالسكوت. يصبح الصمت أبلغ كاحتجاج على الخيبات. أوجدت له كل الأعذار، اختلقت له العديد منها، حقيقة واحدة كانت جلية لها، أنه خذلها، ليس لأنه لم يعد يحبها، لكن لغيابه الذي أتى في غير أوانه، نحن نستطيع أن نتشافى من رحيلهم عند نقطة معينة، أي غياب بعدها لا يرممه شيء.

يمر الزمن سريعاً في الخارج، بطيئاً على المُعذّبين. خمسة أشهر كالجحيم، في رسائلها الكثيرة التي يتجاهل الرد عليها كانت تحاول أن توجد له أسباب، المُحب يبحث عن كل الأسباب لمن يحبهم وحين لا يجد فهو يخلقها. حتى هو في رسالة قديمة له كان يقول بأنه لا يجد ما يعيبه فيها، لكنه استيقظ ذات صباح وشعر بأنه لا يستطيع المضي شبراً في هذه العلاقة، لم تفهم، كانت تحدثه على الهاتف، بكت وتوسلت لكنه كان أعجز من أن يقف أمام دمعة نافرة. كانت تحدثه وهي تنظر إلى السنين التي ينسفها هكذا، إلى كل الرسائل التي تحملها معها أينما ذهبت، إلى القلب الذي عصره بقبضة قاسية، القلب الذي أحبه. كانت مستعدة لأن تخلق له سبب لكي يتركها لأجله، سبب تستطيع أن تُحمّله وزر النهايات المكررة، سبب توجه لبطنه سهام اللوم والعتاب. أصعب من الأسئلة التي تقض مناماتنا هي الإجابات التي لا تُخلق.

أمسكت بالورد تتلمسه، لا يزال طرياً بفعل البرودة، صديقتها نصحتها بأن تتخلص من الصور والرسائل وكل ما يخصه، كانت تُجيبها وماذا أفعل بالذكريات؟ تعلم فَلَك بأنه لا طائل من البقاء على الذكريات ولا الحنين إلى الماضي الذي لن يعود، وإن عاد فسيعود مشوهاً، لكن لو استطعنا جميعاً المشي على ذكرياتنا لقطعنا آخر خيط يربطنا بالإنسانية المتهتكة أصلاً. الحزن الذي تشع به العيون أصدق من خدعة الضحكات المجوفة. احتضنت الورد بين يديها كطفل هجره أبوه وتركه لأم ثكلى، لم تستطع أن تترك الباقة بداخل الثلاجة فما للورد من ذنب فيؤخذ بجريرة صاحبه. ومع أن كل ما حدث كان يعطيها العذر في القفز على تلك السنين التي عاشتها معه بحب إلا أنه لم يهن عليها ألا تلتفت لما تبقى من ذلك النبض الخافت الذي يصدح بداخلها ، لا يزال هناك ما يبدو أنه على ما يرام تجاه عبدالله. الشجرة التي تموت تبقى لها جذور تنبض تحت الأرض الخرساء، هكذا الحب لا يموت جميعه.

بالرغم من أنه قد تخلص على ما يبدو مما يذكره بفَلَك إلا أنها على النقيض تماماً تُداري كل ما يخصه بحب وكأن كل الأمل قد نفد من العالم ولم يبقى إلا لديها. في إحدى خلواتها مع نفسها أدهشها كيف أنها استحالت لأم دون أن تحمل بطفل، كانت تستغرب من حرصها على كل ما يخصه لديها، هي تُربي أشيائه كما تفعل الأم بطفلها حتى عندما يهجرها والده، الأمهات مثقلات بالوفاء. قد يستطيع البعض القفز والمشي فوق الذكريات والمضي في حياتهم، إلا أن هناك من يقتات على ذكريات الأحبة. حملت الورد إلى محل للنجارة، طلبت من العامل أن يصنع لها صندوق زجاجي ببروز خشبي، قررت أن تحتفظ بآخر ما وصلها منه .


 داود الجلنداني 
نوفمبر 2015م
*نُشرت في ملحق شرفات

هناك تعليق واحد:

  1. يااااااااه يا صديقي ..ياااااه وألف آآآآآآآآآآه
    كلما اتكأتُ على متصفحك من عناء الأيام أجد دمعة تتسلل من خلف شاشتي خلسة وتحرقني كثيرا..
    هذه الذكريات وهذا الغياب ينحرنا دون أن ندري بأنه في كل مرة يموت شيئا منا!
    ماذا تبقى منهم غير الخذلان والألم والوحدة؟!
    ونحن قاب قوسين من موت أو أدنى..
    لسنا بتلك القوة كي نتجاوزهم ونمضي قدما ..
    ولسنا بتلك القوة أيضا كي نتعايش مع ما تبقى منهم!
    نحن أبناء الجحيم لا محالة!

    صديقي .. لا زالت ابتسامتك تعبرني كلما مر طيفك من أمامي ..

    فليحفظك الله.

    ردحذف