الأربعاء، 30 ديسمبر 2015

تفاصيــل صغيــرة


تفاصيل صغيرة

لم يكن من السهل أن يقدم على خطوته تلك، فكر كثيراً في عواقب الأمر، فكر في عائلته وهو يتجرأ، فكر أيضاً في أنها ستكون المرة الأولى التي يتمرد فيها. طارحَ الأسئلة وطارحتهُ حتى أعيته فقرر أن يفعل ما يطمئن له قلبه، عقله سيؤكد له جودة الأشياء وصلاحها، وحده القلب من يقبل ويطمئن. لا شك أنه استرجع كل قراراته السابقة، لا يشك لحظة أنها كانت إلى حد كبير مدفوعة برغبات الآخرين أو من يظن بأنهم يكترثون له. ذلك الصباح قرر أن يفعل ما يريد، لمرة واحدة وليكن بعدها ما يكن. يقول لنفسه: إن نجحتُ هذه المرة سيحدث الصدع الذي ينبثق من خلاله ماء الجبل، قطرات الماء الأولى التي تتفجر من الصدوع ستدفع الثمن لتجعل بقية الماء ينساب كصفحة هادئة في بحيرة، أولئك الذين يقفون في صف القتال الأول في الثورات العظيمة يُأمنون الحرية للأجيال القادمة أو هكذا كان يظن!

**

لخمس سنوات، وكلما فتح باب المقهى الذي يعمل فيه مع عائلته المهاجرة، كانت تجلسُ متخذةً مكانها المعتاد قرب الباب جميلة وزاهية، لا يذكر بالتحديد متى كان اليوم الأول لها هناك. عندما رآها للمرة الأولى أراد أن يُدخلها للركن الذي يُحب في المقهى، لكن وفود الزوجين ريتشاردسن وتحيتهما الصباحية له استعجله في الترحيب بهما وإعداد القهوة لهما. في الفسحة التي يحظى بها عند العاشرة يأخذ فنجانه ويجلس قريباً منها، بالضبط عند شجرة البونساي التي تزين مدخل المقهى. لم يجرب أن يتحدث معها على الرغم من السنين التي انقضت وهو يصافح وجهها كل صباح. حتى تلك الصباحات التي لا يعمل فيها كان يمر بقربها، يُلقي ابتسامته وتنقض الخيالات الكثيفة عليه فيمضي لشؤونه. أصعب ما مر عليه هو المرة التي تجرأ فيها بطلب السماح بإدخالها للمقهى، أخبرهم بأنه سينظفها ويُشذب ما استطال من شعرها، اتهمه والده بأنه يسعى بأن تكون له الكلمة العليا في المكان، ذكّره بألّا ينسى تفضُلِهم عليه عندما تحايلوا على أنظمة الهجرة في اليونان للسماح بدخوله ضمن خانة الأولويات فألحقوه بدفتر العائلة، ذكّره أيضاً بأنه لم يمُت بعد حتى يتدخل في شؤون المقهى وصرفهُ لمتابعة طلبات الزبائن. شعر بأنه خذلها وأنه ربما تجرأ على أن يحلم كثيراً، عندما يصدمنا الواقع تصبح الأحلام الصغيرة استنزافاً. كانت تشغله طيلة الوقت، حتى حين يُرى بأنه منشغلٌ في تلبية الطلبات يسترق النظر إليها من خلال الزجاج. 

يُسارع في أن يقوم هو بأخذ طلبات الطاولات التي تقع قرب الباب، حتى جودة خدمته للزبائن تعتمد على مقدار احترام الزبون لها عندما يدخلون المقهى. يرقب أقدامهم وهم يدلفون عبر الباب، كلما مر الزبون خفيفاً بعيداً عنها كلما أكرمه بخدمة لائقة، يأملُ بيومٍ يستطيع فيه أن يمد يده فيلتقطها من مصيرها. كل المعاملات السيئة والنظرات القذرة التي تلقتها طيلة تلك السنوات وأحالتها للاهتراء كانت تأكل قطعة من قلبه، تأتيه لحظات يفكر فيما يجعله مهتماً بها في حين أنه من الأجدر به أن يلتفت لأموره، حين تكتشف بأنك لم تصنع شيئاً لنفسك مطلقاً يصبح الاهتمام بالآخرين ترفاً ورفاهية. لم يذكر مرة أنه كان بهذا الحِس قبل خمس سنوات، لحظات الهرب من مصير آلت إليه أسرته في وطنه المشتعل بحروب الكبار، ورحلة البحث عن الحياة والحب غيّرته من الداخل والخارج، الحب يذيب العقد، فكل ما نبثه في هذا العالم يبقى هائماً في فضاء لا نهائي وسيعود إلينا حتماً يوماً ما. ‏ليلاً، نحملق في الفضاء. نملأ حبل الغسيل الطويل بأمنياتنا، نعلقها لا لتجف؛ لتلتقطها روح مسافرة مع الشهب في السماء. تعبث الريح عادة بحبل الأماني. تلك المعرفة التي استلهمها في قارب الموت وهو ينظر للسماء المُطعمة بالنجوم جعلته يدرك أسباب الحياة، وأن الرحمة الإلهية التي انتشلته من الغرق لا بد أنها أرادته سبباً لنفخ الروح في حياة أخرى وإن بدت حقيرة للآخرين، حتى وإن كانت هذه الروح تسكن سجادةً قديمة لا تُخطئها أقدام زبائن يرتادون مقهى تديره عائلة مهاجرة  .

داود الجلنداني
ديسمبر 2015م
*نُشرت في ملحق أشرعة بجريدة الوطن

الأحد، 27 ديسمبر 2015

البـــرواز







البرواز

يمر كل يوم على ذلك الحائط في طريقه من الباب الداخلي للبيت وهو يدلف للصالة الفسيحة، لا ينظر للحائط الأيسر من الممر الواسع، يضع المفاتيح على الطاولة التي تنتصب مرآة كبيرة فوقها. ككل يوم من أيام الأسبوع، تصل قبله فيجدها بانتظاره على طاولة الغداء مع صغيرها علي. تحتضن زوجها وتُقبله، التحية المعتادة لهما حتى وهي عند أهلها، تُحب أن تُعبّر عن حبها له بكل الطرق حتى تلك التي تجعله يحمر خجلاً من أبيها. أخبرها مراراً أنه لا يحب أن تترك ذلك البرواز معلقاً هناك يشاهده كل يوم في طريق دخوله وخروجه من البيت، تُصر هي على أن تبقيه معلقاً. لقد كان رفيقها طيلة عام ونصف العام عندما غاب هو عنها وتركها معلقة كسحابة صيف لا هي قد أمطرت ولم تهب الريح لتأخذها لأرض جديدة. يقول هو بأنها تريد أن تبقيه متألماً لما حدث، تُذكره بخطيئة لا نصيب لها من الغفران، وتُصر هي دوماً بأنها تُحبه للدرجة التي تجعلها تتمسك ببقاء البرواز على الجدار الأيسر، تقول إن كل الأشياء الأثيرة لها بوصلة اليسار، كحبها له الذي يسكن في الجانب الأيسر من صدرها.

**

كان نقل الحقائب ودولاب الكتب إلى الغرفة الجديدة مرهقاً. استدعت إحدى صديقاتها لتساعدها في تفريغ الغرفة القديمة والانتقال إلى السكن الجديد المخصص لموظفات الشركة. لم يكن السكن يبعد كثيراً، عشر دقائق فقط عن الحيل الجنوبية. تمت العملية في ساعتين، الغرفة الجديدة أوسع ولها دورة مياه خاصة، كما أنها ستحظى بفرصة العيش فيها لوحدها دون أن تشاركها زميلة أخرى في إشغال المساحة الضيقة. تتذكر قول أمها لها، «الوسع وسع القلوب يا ابنتي». بالرغم من الامتيازات التي ستحظى بها في السكن الجديد إلا أنه قد أخافتها هذه العزلة المفاجئة، كانت ستمسك بيد صديقتها قبل أن تغادر الغرفة لتطلب منها أن تجلس معها بعض الوقت. ومع أنها لم تعد تُشارك صديقاتها كثيراً إلا أن حضورهن وقضاء الوقت بصحبتهن كان يشغل عقلها عن التفكير المتواصل. ساعدها ذلك في تناسي الفقد والخذلان الأليم الذي ألمّ بها قبل أشهر. الآن أصبحت تقارع غربة أخرى. تمنت لو أنها لم تنتقل للمكان ليلاً، تخاف وحدة الليل ولأشهر كانت تُغمض عيونها للنوم عندما يتسلل نور الشمس فجراً.

جلست على طرف الكنبة التي تتوسط الغرفة الجديدة تُسمّر نظرها على الأغراض المبعثرة بانتظار أن ترتبها يد الساكن الجديد. حتى أنها لم تتفحص أغراض الغرفة ولم تتفقد بفضولها المعتاد دورة المياه ولا الدولاب الكبير، كانت تفعل ذلك دائماً كلما ذهبت إلى مكان جديد، تحب أن تُخلّف ألفة مع المكان. تُمسك بعلبة الحذاء الفارغة التي وضعت بداخلها باقة وردة يابسة، تركتها منذ خمسة أشهر ببطن الثلاجة في غرفتها القديمة حتى لا تتلف. قبل اليوم لم تكن تعني لها باقة ورد أي شيء، ولا تدري حقاً لمَ هذه الباقة دون غيرها حظيت بعنايتها. تؤمن فَلَك بأن للأقدار ذكاء يستعصي على بني البشر، هذه الباقة هي آخر ما وصلها من خطيبها. مع أنه قد ذهب وأخبرها بأنه لا يعدها بأي شيء وأن عليها أن تتعامل مع الوضع كأنه لم يكن يوماً في حياتها لسبع سنين ونيف، إلا أنها لم تستطع أن تترك تلك الباقة خلفها وهي تجر كل ما يخصها خارج تلك الغرفة، تركت وراءها فقط بعض الأحلام والأمنيات والغزل العفيف الذي تشرّبته الغرفة لعام كامل عندما انتقلت إليها وحملت معها كل الخذلان والفقد الذي خلّفه لها عبدالله وهي تغادرها. أخبرته كثيراً أنها امرأة لا يُعبث معها في أمر الغياب، وكان يخبرها في المقابل أنها ستصبح أقوى بعد كل شيء. قويةٌ لكن بدون قلب، هكذا كانت تُجيبه. وفي نهاية محاولاتها لفهم كيف تستحيل القلوب المُحبة لكل تلك القسوة كانت تلوذ بالسكوت. يصبح الصمت أبلغ كاحتجاج على الخيبات. أوجدت له كل الأعذار، اختلقت له العديد منها، حقيقة واحدة كانت جلية لها، أنه خذلها، ليس لأنه لم يعد يحبها، لكن لغيابه الذي أتى في غير أوانه، نحن نستطيع أن نتشافى من رحيلهم عند نقطة معينة، أي غياب بعدها لا يرممه شيء.

يمر الزمن سريعاً في الخارج، بطيئاً على المُعذّبين. خمسة أشهر كالجحيم، في رسائلها الكثيرة التي يتجاهل الرد عليها كانت تحاول أن توجد له أسباب، المُحب يبحث عن كل الأسباب لمن يحبهم وحين لا يجد فهو يخلقها. حتى هو في رسالة قديمة له كان يقول بأنه لا يجد ما يعيبه فيها، لكنه استيقظ ذات صباح وشعر بأنه لا يستطيع المضي شبراً في هذه العلاقة، لم تفهم، كانت تحدثه على الهاتف، بكت وتوسلت لكنه كان أعجز من أن يقف أمام دمعة نافرة. كانت تحدثه وهي تنظر إلى السنين التي ينسفها هكذا، إلى كل الرسائل التي تحملها معها أينما ذهبت، إلى القلب الذي عصره بقبضة قاسية، القلب الذي أحبه. كانت مستعدة لأن تخلق له سبب لكي يتركها لأجله، سبب تستطيع أن تُحمّله وزر النهايات المكررة، سبب توجه لبطنه سهام اللوم والعتاب. أصعب من الأسئلة التي تقض مناماتنا هي الإجابات التي لا تُخلق.

أمسكت بالورد تتلمسه، لا يزال طرياً بفعل البرودة، صديقتها نصحتها بأن تتخلص من الصور والرسائل وكل ما يخصه، كانت تُجيبها وماذا أفعل بالذكريات؟ تعلم فَلَك بأنه لا طائل من البقاء على الذكريات ولا الحنين إلى الماضي الذي لن يعود، وإن عاد فسيعود مشوهاً، لكن لو استطعنا جميعاً المشي على ذكرياتنا لقطعنا آخر خيط يربطنا بالإنسانية المتهتكة أصلاً. الحزن الذي تشع به العيون أصدق من خدعة الضحكات المجوفة. احتضنت الورد بين يديها كطفل هجره أبوه وتركه لأم ثكلى، لم تستطع أن تترك الباقة بداخل الثلاجة فما للورد من ذنب فيؤخذ بجريرة صاحبه. ومع أن كل ما حدث كان يعطيها العذر في القفز على تلك السنين التي عاشتها معه بحب إلا أنه لم يهن عليها ألا تلتفت لما تبقى من ذلك النبض الخافت الذي يصدح بداخلها ، لا يزال هناك ما يبدو أنه على ما يرام تجاه عبدالله. الشجرة التي تموت تبقى لها جذور تنبض تحت الأرض الخرساء، هكذا الحب لا يموت جميعه.

بالرغم من أنه قد تخلص على ما يبدو مما يذكره بفَلَك إلا أنها على النقيض تماماً تُداري كل ما يخصه بحب وكأن كل الأمل قد نفد من العالم ولم يبقى إلا لديها. في إحدى خلواتها مع نفسها أدهشها كيف أنها استحالت لأم دون أن تحمل بطفل، كانت تستغرب من حرصها على كل ما يخصه لديها، هي تُربي أشيائه كما تفعل الأم بطفلها حتى عندما يهجرها والده، الأمهات مثقلات بالوفاء. قد يستطيع البعض القفز والمشي فوق الذكريات والمضي في حياتهم، إلا أن هناك من يقتات على ذكريات الأحبة. حملت الورد إلى محل للنجارة، طلبت من العامل أن يصنع لها صندوق زجاجي ببروز خشبي، قررت أن تحتفظ بآخر ما وصلها منه .


 داود الجلنداني 
نوفمبر 2015م
*نُشرت في ملحق شرفات

الثلاثاء، 15 ديسمبر 2015

لا يُعدم الظمآن أي وسيلة



لا يُعدم الظمآن أي وسيلة!
وحيدٌ كقارب معطوب
لا يصلح للإبحار جفّت مساميره

وكقارب للموت في رحلته الأخيرة
حمّلوه بالباحثين عن الحياة
أي حياة
لا يُعدم الظمآن أي وسيلة!

يئنُ المركب
خائفٌ في رحلته الأخيرة
ستنفلق ألواحه
وفي أفضل الأحوال سيصل للشاطىء كبعض سفينة!
ستهربُ الأجساد الشبقة بالحرية
وسيركنونه كأن لم يكنُ يوماً وحده الوسيلة!

ربما سيلحظهُ مصور هاوٍ
وسيُخلده في معرض للصور البديعة
ذلك أقصى ما ستعرضه الحياة لمركب
في رحلته الأخيرة..!

**

بين كُتل اللحم البشري
تجلس "آية"
طفلةٌ أكملت الخامسة
كعمر الثورة
هي أيضاً باحثة عن حياة
أي حياة
لا يُعدم الأطفال أي وسيلة!

هناك "سامر"
كان يملك دار نشر بدمشق
حل عليها ليلٌ لم يحمل أي سكينة
نهبها الجيشُ وأتلفها
خاف سامرٌ، حمل طفلتيه وحبيبته
هرّبهُ راعٍ للغنم عبر الجبال
والتحق بمركب عجوز في رحلته الأخيرة
لا يُعدم الحالمون أي وسيلة!

**

يئن القارب
تتبلل أقدام آية
تلحظ أمها فتُمسك بيد الزوج
ينتفض الرجالُ 
يتصايحون ما الوسيلة!
يُفسحون، ماذا يفسحون ولا طريق!
تتململ الأجساد أمام متعهد المركب
لوحٌ صغير ومسمار واحد..لا مشكلة!
لا يُعدم اللصوص أي وسيلة
هناك فرصة أخرى للمركب المسكين في رحلته الأخيرة..

**

منتصف الليل
نصف حلم
نصف قمر
تتموضع يارا بين ذراعيّ فراس
"هو ذاته القمر في بلادنا يا حبيبي"
"هنا لا يعكر صفوه صوت المُقاتلات يا حبيبتي"
"ولا البراميل يا قمري"
هناك مُتسع لضحكات العاشقيّن
قد تفصلهم عن فراق أبدي لحظات وجيزة
يسرقان قبلة بين الهاربين
لا يُعدم المشتهون أي وسيلة

**

تلوح أضواء كشافات خفر السواحل
يُهلل اليائسون "نجاتنا قريبة"
يُطوق المركب المُثخن بالأحلام المسكوبة
يصعد الفارون لقارب النجاة
يُطلقون النظرات الحزينة
لقارب يهبط للقاع في رحلته الأخيرة

يُساقون لمركز الإيواء
تُعنّون الصحف هذا النصر
تمر الشهور
والأوقات المريرة
بانتظار حياة، أي حياة!
لم يبقَ للظمآن أي وسيلة
لم يكُ أي وسيلة.

 **

27.09.2015

الاثنين، 14 ديسمبر 2015

وحدك تعلمين




هل يصلح أن أقول الآن بعد كل ما جرى أن الحسرة تعصرني على ليلة بِتُ فيها دون أن أحكي لك الحكاية؟ ودون أن أُغني لك قبل أن يأخذني النعاس؟ هل تصدقيني لو قلت بأن كل الوقت الذي فرّ مني دون أن يكون معك أُعوضهُ بالضِعف الآن؟ لطالما يــ "الغالية" قلت لك مراراً أنني لم أحبكِ كفايةٌ وكما يجب، كل ما كنت أفعل لم يكن ليُرضي هذا القلب الذي بُليتُ به. تعرفين ذلك الشعور عندما يفلت منك ما لا يُقدر بثمن وتتمنين لو أنك تمسكتِ به أكثر، لو أن قبضتك لم تُدمها أنياب الوقت وأنك تحملتِ أكثر بقليل؟ ولكن هل كان أياً من هذا يلوح لكلينا يا صديقتي؟ لو أنني، لو أنكِ، رأيت ما كان يقترب من جنتنا هل كان سيحدث ما جرنا لهذا الحطام؟ أحاول أن أفهم، صدقيني أفعل ذلك طيلة اليوم، ولا أجد سوى أسئلة جديدة لإجابات لا تأتي، سيء جداً ما يحدث، تُدركِ ذلك بالتأكيد، الشيء الذي يُبقيني صامداً هو ذلك التسجيل الصوتي وأنتِ تُغنين

" لو يوم أحد في وحدتك نادى عليك
ثم التفت وشفت ما حولك أحد!
هذا أنا من كثر ما فكرت فيك
ناديت لك والكل منا في بلد.. "

وكأنك تعلمين يــ "غالية" بأنه سيأتي يوم لا يُقيمني فيه سوى صوتك العذب، سوى أغنية بعثتها لي من البعيد ذات عيد. ووحدك بعد كل شيء تعلمين.

مسقط

أين يختبئ العاشق؟



يسوقني الحنين إليك كثيراً، أشتاق لصوتك الذي يذكرني بطفلة لا تكبر، ولوجه مدور لا يشبهه في ذلك سوى قمر الرابع عشر من الشهر، أشتاق للضحكات التي تُرّقّص القلب فيغدو زَهِراً خَضِراً، وأشتاق لتلك العينين العسليتين في بريقهما تلألؤ زُرقة البحر حيث النوارس تتهادى مع الريح. عصيٌ هذا القلب على النسيان يا "الغالية"، ولا يُلام. تذكري المنسي الذي أحبك دون أن يراك، ومن يعشق دون أن يرى فقد تعلّق بالجوهر الذي لا يصدأ، وكذلك يفعل حبكِ بالقلب الذي عرفه. وحدكِ أنتِ من عرف هذا القلب فلا تُثقليه باللوم، وامنحيه الرضا وإن من بعيد. هل أخبرتكِ أن الأحلام تأتي بك كل ليلة؟ وأن النسيم الذي تعرفه مسقط في أشهر الشتاء القليلة السريعة لا يُشببه إلا ابتسامتك ولا يذكرني إلا بك؟ أين يختبئ عاشق من نسيم يأتي من بحر يُطوق مدينته؟

7:34 ص
مسقط

الأحد، 13 ديسمبر 2015

عزت سراييج شاعر البوسنة الذي تجرأ على أن يعيش


عزت سراييج شاعر البوسنة الذي تجرأ على أن يعيش*

من غير النادر أن تلتقي بشاعر أو روائي أو كاتب في مختلف صنوف الأدب وتدخل في حالة من الذهول مع كل نص من نصوصه، إلا أن هذا ما حدث حين كنت أتصفح الكتاب الهدية الذي يأتي كل شهر مع مجلة دبي الثقافية لعدد شهر مايو وكان يحمل عنوان «عشق وحداد» وهو يحتفي بمجموعة من مختارات الشعر العالمي. هذا الكتاب الذي جمع مقتطفاته الشعرية المترجم الرداد شراطي وحوى قصائد لعدد من الشعراء من ايطاليا وبلجيكا والبوسنة وإسبانيا والبرتغال. وما يهمنا هنا هو الشاعر البوسني عزت سراييج (1930 – 2002) وديوانه (أحد ما دقّ الجرس) المكتوب بالإيطالية، وقد نال هذا الديوان جائزة البرتو مورافيا للعام 2002 .
هذا الشاعر الذي أتعرف عليه للمرة الأولى يتمتع بعبقرية مذهلة في رسم الصور الشعرية، فيبهرك بقدرته على اقتناص الفكرة واختيار الصورة المناسبة التي سترسخ بذهن القارئ. أما عن طريقته في إنهاء جملته فهي مفاجئة بحيث لا تستطيع أمامها سوى الدهشة والإعجاب. يقول عزت سراييج في قصيدته «سيدتي» التي كتبها في 1964م :

سيّدتي
أعفيكِ الحدادَ يومَ رحيلي
يومَ لا أجيئكِ إلا في انفلات شكل الذكريات
كوني سعيدة
كما في ما مضى من مساءاتِنا الجميلة
اقرئي مرّة كتبي واصرخي

هذه الأمنية التي يتمنى الشاعر من حبيبته أن تحققها له وهي أن تُعفي نفسها من الحداد عليه يوم رحيله، هذا الشاعر المُترفق بحبيبته التي يعلم جيداً أن رحيله سيربكها كثيراً، تأتي من معرفة الخبير بالفقد وبالحنين الذي يتوقد في قلب الحبيب عند فراق محبوبه، كيف لا وقد عاصر شاعرنا الغزو الصربي للبوسنة ورأى ما يخلفه القتل والدمار والخراب من ثكل للقلوب واغتيال للحياة لا تمحوه السنين. يقول الشاعر لحبيبته حين ينفلت عقد الذكريات وتستحيل الأماكن والزوايا قنابل تنفجر في وجه المكلوم عندما تباغته الذكريات، يقول لها أن تتذكر المساءات الجميلة التي مضت عليهما سوية، أن تقرأ كتبه وأشعاره ورسائله إليها فتصرخ مرةً حتى لا يستبد بها الأنين، يريد لها أن تعيش الحزن، مرةً واحدة.
ولا يوجه شاعرنا حديثه لحبيبته التي يُعفيها من الحداد يوم رحيله فقط، بل يُخاطب الأجيال التي تأتي بعد الحرب، الأجيال التي عاش بعضها أزمة اللجوء والتشريد فيقول لها:

أيتها الأجيالُ القادمة ابحثي عنكِ ملءَ تَحَرٍّ أحمرَ،
أجسادُنا ستضاجع بعضها تحت الأرض الخرساء،
فلتسيري بتؤدة
لئلا تجرحي شفتينا
لئلا تطئي نظراتِنا الميّتة

يتخيل الشاعر الخطوات الحافية للأجيال القادمة على الأرض التي عادوا إليها بعد الحرب، يمرون على الأجساد المطمورة بركام البيوت المهدمة وبالأشجار المُقتلعة، فيقول لهذه الأجيال امشي برفق، لا تُزعجي النيام تحت الأرض الخرساء، رفقاً بالحبيبين اللذين لم تكتب لهما الحرب اللقاء على الأرض فتعانقا تحتها، لا تجرحي الشفاه العطشى ولا النظرات المّيتة الحزينة. أيتها الأجيال كوني أرفق بهما من المدافع ومن غريزة الإفناء.
ولسوء حظ شاعرنا البوسني فهو لا يستطيع كتابة مرثيته الأولى/‏الأخيرة كعادة الشعراء، كما فعل غازي القصيبي سبيل المثال في قصيدته «سيدتي السبعون»، يُخبرنا عزت سراييج عن رحيله، لكنه أيضاً باقٍ ويدعونا لزيارته في المنزل رقم 9/‏3 الكائن بزقاقِ الملكِ تفرتكو:

كم أغبطُ الآن ذلك الفتى عزّت سراييج، تلميذ السنة الأولى ثانوي
الذي كان يرتدي معطفا عسكريا ويذهب
لغزو العالَم غيرَ عابئٍ بعجزه عن تصريف
فِعْلِهِ المُفضّل عَشِقَ.
لن يًسمح لي أبدا بكتابة مرثيتي الأولى
لن يُسمَح لي أبدا أن أعود إلى سنّ السابعة عشرة أو الخامسة والعشرين
إني راحلٌ. أحانَ الوقتُ؟ عليّ أن أتّخذ من الذكريات ملجأ
لكنّ لي أشياءَ كثيرةً أريدُ قولها
إني راحل. ومع ذلك فأنا دوما هنا. إذا مررتم بالرقم 9/‏3 الكائن بزقاقِ
الملكِ تفرتكو، سأقدّم لكم كأسَ شايٍ وذِكرى
أنا دوما هنا. رجاءً امنحوني دقيقةً كي ألملم نفسي!

وهل يبقى من حال الخارجين من أزمة الحروب سوى الذكرى والصور التي حملوها ذات رحيل مفاجئ على وقع القصف وصوت جنازير الدبابات؟ ولكن شاعرنا كريمٌ فهو يقدم لنا مع الذكرى شاياً، هو هناك دوماً في عنوانه، فقط امنحوه دقيقة ليلملم نفسه قبل الدخول. وعلى الرغم من المآسي فإن الشاعرَ مرهفٌ لا يعبأ إلا بالسلام وبالحب وبالموسيقى والأغنيات، هو وإن جنّدوه ففيه شيء لا يستقيم مع قرع طبول الحرب، هو غارقٌ في شيء آخر:

لم أعرفْ كيف أمشي على إيقاع قرْع الطبول.
لم أعرف كيف أقاوم غزوَ الحُنُوِّ والكمنجات

شاعرنا العذب عاش كل شيء في حياته، عاشها بطولها وعرضها، آلمتهُ واختبرها وخَلُصَ في النهاية أن أهدانا قصائده التي ستبقى تُشير لشاعرها القدير، وهو نبيلٌ يعطِفُ على أحبائه من وخز الوداع ومن الفراق. عاش كل شيء «إلاّ الموت»:


عشتُ كلَّ شيء
إلا الموت
لي فسحةٌ أخرى لأزورَ بلدا ما
لأتّخذَ صديقا
لِمَ لا؟
لي أيضاً فسحة الحصول على وِسامٍ شرفٍ
(
سيكون الأول في حياتي)
ولي ختاما أن أقول
عشتُ كلَّ شيءٍ
إلا الموت
ألاّ أجرحَ حين أودِّع
مَن أحب ويحبّني
هو وحدَه ما يربطني بهذه الحياة

ويتساءل عزت سراييج عن مصير ذلك الشحرور الذي كان يُغني الربيع الماضي في محطة القطار:
أيُّ منتهى بلغة ذاك الشحرور
الذي غنّى الربيعَ الماضي
لمّا كنّا ننتظر قدوم القطار
بمحطّة دولفيشي؟
أتكفي قصيدةٌ عن الشحرور
لتحلّ محلَّ غناء الشحرور؟
أشكُّ في ذلك
لا يظن شاعرنا بأن قصيدته عن الشحرور الذي لم ينسى تغريده منذ الربيع الأخير سوف تكون بديلاً جيداً عن غناء الشحرور ذاته، فلا شيء يُستبدل عن الحياة، لا يمكن أن نستبدل الحب بالذكريات وبالصور، ولذلك لا يمكن لنا كذلك أن نستبدل شاعرنا البوسني بقصائده التي وصلت إلينا متأخرة، والعتب في ذلك علينا بعض الشيء، لكننا ربما سنجد مكاناً لوصيته للحبيبات في أن يترُكن الحداد يوم رحيلنا ففي الحياة متسعٌ من فرح. وهناك متسعٌ في مقالنا هذا لُشكر المترجم الذي أوصل إلينا بجهده وبلغته التي ترجم بها من الإيطالية قصائد الشاعر القدير عزت سراييج.

*هذا النص نشر في ملحق شرفات بجريدة عُمان