الأربعاء، 30 ديسمبر 2015

تفاصيــل صغيــرة


تفاصيل صغيرة

لم يكن من السهل أن يقدم على خطوته تلك، فكر كثيراً في عواقب الأمر، فكر في عائلته وهو يتجرأ، فكر أيضاً في أنها ستكون المرة الأولى التي يتمرد فيها. طارحَ الأسئلة وطارحتهُ حتى أعيته فقرر أن يفعل ما يطمئن له قلبه، عقله سيؤكد له جودة الأشياء وصلاحها، وحده القلب من يقبل ويطمئن. لا شك أنه استرجع كل قراراته السابقة، لا يشك لحظة أنها كانت إلى حد كبير مدفوعة برغبات الآخرين أو من يظن بأنهم يكترثون له. ذلك الصباح قرر أن يفعل ما يريد، لمرة واحدة وليكن بعدها ما يكن. يقول لنفسه: إن نجحتُ هذه المرة سيحدث الصدع الذي ينبثق من خلاله ماء الجبل، قطرات الماء الأولى التي تتفجر من الصدوع ستدفع الثمن لتجعل بقية الماء ينساب كصفحة هادئة في بحيرة، أولئك الذين يقفون في صف القتال الأول في الثورات العظيمة يُأمنون الحرية للأجيال القادمة أو هكذا كان يظن!

**

لخمس سنوات، وكلما فتح باب المقهى الذي يعمل فيه مع عائلته المهاجرة، كانت تجلسُ متخذةً مكانها المعتاد قرب الباب جميلة وزاهية، لا يذكر بالتحديد متى كان اليوم الأول لها هناك. عندما رآها للمرة الأولى أراد أن يُدخلها للركن الذي يُحب في المقهى، لكن وفود الزوجين ريتشاردسن وتحيتهما الصباحية له استعجله في الترحيب بهما وإعداد القهوة لهما. في الفسحة التي يحظى بها عند العاشرة يأخذ فنجانه ويجلس قريباً منها، بالضبط عند شجرة البونساي التي تزين مدخل المقهى. لم يجرب أن يتحدث معها على الرغم من السنين التي انقضت وهو يصافح وجهها كل صباح. حتى تلك الصباحات التي لا يعمل فيها كان يمر بقربها، يُلقي ابتسامته وتنقض الخيالات الكثيفة عليه فيمضي لشؤونه. أصعب ما مر عليه هو المرة التي تجرأ فيها بطلب السماح بإدخالها للمقهى، أخبرهم بأنه سينظفها ويُشذب ما استطال من شعرها، اتهمه والده بأنه يسعى بأن تكون له الكلمة العليا في المكان، ذكّره بألّا ينسى تفضُلِهم عليه عندما تحايلوا على أنظمة الهجرة في اليونان للسماح بدخوله ضمن خانة الأولويات فألحقوه بدفتر العائلة، ذكّره أيضاً بأنه لم يمُت بعد حتى يتدخل في شؤون المقهى وصرفهُ لمتابعة طلبات الزبائن. شعر بأنه خذلها وأنه ربما تجرأ على أن يحلم كثيراً، عندما يصدمنا الواقع تصبح الأحلام الصغيرة استنزافاً. كانت تشغله طيلة الوقت، حتى حين يُرى بأنه منشغلٌ في تلبية الطلبات يسترق النظر إليها من خلال الزجاج. 

يُسارع في أن يقوم هو بأخذ طلبات الطاولات التي تقع قرب الباب، حتى جودة خدمته للزبائن تعتمد على مقدار احترام الزبون لها عندما يدخلون المقهى. يرقب أقدامهم وهم يدلفون عبر الباب، كلما مر الزبون خفيفاً بعيداً عنها كلما أكرمه بخدمة لائقة، يأملُ بيومٍ يستطيع فيه أن يمد يده فيلتقطها من مصيرها. كل المعاملات السيئة والنظرات القذرة التي تلقتها طيلة تلك السنوات وأحالتها للاهتراء كانت تأكل قطعة من قلبه، تأتيه لحظات يفكر فيما يجعله مهتماً بها في حين أنه من الأجدر به أن يلتفت لأموره، حين تكتشف بأنك لم تصنع شيئاً لنفسك مطلقاً يصبح الاهتمام بالآخرين ترفاً ورفاهية. لم يذكر مرة أنه كان بهذا الحِس قبل خمس سنوات، لحظات الهرب من مصير آلت إليه أسرته في وطنه المشتعل بحروب الكبار، ورحلة البحث عن الحياة والحب غيّرته من الداخل والخارج، الحب يذيب العقد، فكل ما نبثه في هذا العالم يبقى هائماً في فضاء لا نهائي وسيعود إلينا حتماً يوماً ما. ‏ليلاً، نحملق في الفضاء. نملأ حبل الغسيل الطويل بأمنياتنا، نعلقها لا لتجف؛ لتلتقطها روح مسافرة مع الشهب في السماء. تعبث الريح عادة بحبل الأماني. تلك المعرفة التي استلهمها في قارب الموت وهو ينظر للسماء المُطعمة بالنجوم جعلته يدرك أسباب الحياة، وأن الرحمة الإلهية التي انتشلته من الغرق لا بد أنها أرادته سبباً لنفخ الروح في حياة أخرى وإن بدت حقيرة للآخرين، حتى وإن كانت هذه الروح تسكن سجادةً قديمة لا تُخطئها أقدام زبائن يرتادون مقهى تديره عائلة مهاجرة  .

داود الجلنداني
ديسمبر 2015م
*نُشرت في ملحق أشرعة بجريدة الوطن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق