الخميس، 14 أبريل 2016

قراءتي في كتاب (الأصول السياسية للحرية الدينية)



تم نشر هذه القراءة في جريدة عمان بتاريخ 8 فبراير 2016م

داود الجلنداني
المؤلف : أنطوني جيل
حقوق الترجمة والنشر للشبكة العربية للأبحاث والنشر 2014
عدد الصفحات : 368
يُعد هذا الكتاب فرصة للمهتمين بموضوع الحرية الدينية وأصولها. وبفهم الكيفية التي تزدهر أو تقمع بها حرية المعتقد فإنه من السهل فهم الطريقة التي تُربح فيها أو تُخسر باقي الحريات. وإلى تاريخ كتابة هذه الدراسة فإنه قلة من العلماء قد سعوا إلى شرح ظهور الحرية الدينية، أو التوسع والوصول بشكل أكبر إلى توضيح التغير والتقلبات التي طرأت عليها بطريقة منهجية، ما عدا المجلدات التي تُعالج مسألة الحرية الدينية في عصور وأماكن مختلفة كالمجلدات التي ألفها سيغموند وهيلمستادتر وفان دير فايفر. ويغلب على هذه المؤلفات حالات دراسية مُحدّدة لم تسعى إلى فهم أوسع للأفكار. ومن هنا جاءت فكرة هذا الكتاب الذي يحاول تقديم إطار عام لدراسة أصول وتطور الحرية الدينية.

لكن قبل الشروع في التنظير لهذه المسألة، لا بد من تعريف الحرية الدينية، من أجل هذا يُشير المؤلف إلى التعريف الذي صاغه الأُسقف جي بروملي أوكسنام، وهو بالنسبة له ـ أي المؤلف – أفضل تعريف للحرية الدينية وساعد بشكل كبير على توضيح مدى السياسات التي تؤثر عليها. يُعرّف أوكسنام الحرية الدينية على أنها حرية العبادة وفقًا للضمير، وحرية الفرد في أن يُغيّر دينه، بالإضافة إلى حرية الوعظ، والتعليم والنشر والقيام بالنشاطات التي تترافق معه كالتبشير وحيازة الملكيات لدور العبادة والوصول إلى وسائل الإعلام. يحاول أنطوني جيل، من منطلق اهتمامه الأكاديمي كباحث في العلوم السياسية، إيجاد طريقة منهجية لفهم أصول الحرية الدينية، ويشدد في كتابه هذا على أن درجة الحرية الدينية لا يحددها القادة والناشطين الدينيين وحدهم، فالُحكام -ديموقراطيون أم ديكتاتوريون- والمسؤولون الحكوميون والمُشرّعون هم الذين يضعون التشريعات والأُطر القانونية التي تعمل بموجبها المؤسسات الدينية وأعضاؤها. وهو يعتقد بأن الفاعلين السياسيين لا بُد ويأخذوا بعين الاعتبار مصالح عديدة عند تحديد هذه الأُطر. فالمستقبل السياسي واحتمالات البقاء والحاجة لرفع الإيرادات الحكومية ونمو الاقتصاد كلها معطيات تحدد طبيعة القوانين التي تتصل بالحريات الدينية. ويقول أنطوني جيل بأن الهدف الأساسي في دراسته هو محاولة فهم لماذا يقوم السياسيون بصياغة التشريعات والقوانين الضامنة للحريات الدينية في الدساتير، بينما في الواقع تبدو «المنفعة» هي التي توضح الكثير.

والنظرية الخاصة المُقترحة التي يعرضها جيل في كتابه هذا مستلهمة إلى حد بعيد من أعمال السياسي والاقتصادي آدم سميث الذي يرى تشابهات بين القوانين المُنظمة للدين وتلك المنظمة لأشكال متعددة من النشاط الاقتصادي، وهو ما تناوله في كتابه نظرية العواطف الأخلاقية، وتستند هذه النظرية الاستنباطية أيضاً على أفكار المدرسة التي تُركز على السلوك المُستنِد إلى المصلحة. نظرية الاختيار العقلاني (Rational Choice Theory) التي يقترحها المؤلف وبنى عليها بحثه في الأصول السياسية للحرية الدينية تقول بأن الناس يرتكزون في بناء قراراتهم، ومن ثم القيام بالفعل على أكثر الوسائل فعالية لتحقيق أهدافهم وبأقل طريقة مكلفة وممكنة. وهي نظرية مرتبطة في الغالب بالاقتصاد إلا أن المؤلف استقدمها لشرح الأصول السياسية للحرية الدينية، وهو بهذا لا يُعد أول من استخدم نظرية مرتبطة بالاقتصاد في دراسة مجالات أخرى كالدين، فمن المعلوم أن علماء الاجتماع من أمثال غاري بيكر ورودني ستارك وبول فرويسي وكارولين ورنر قد طوروا منظور الخيار العقلاني ليشمل دراسة الدين.

وعلى الرغم من هذا التوجه لمد هذه النظرية لتشمل دراسة الدين، إلا أن مانكيور أولسون وهو أحد أهم الاقتصاديين في القرن العشرين وأحد الذين ساعدوا على مد النظرية إلى العلوم الاجتماعية قد صرح بالقول: إن الاقتصاد لا يملك إلا القليل ليقوله عن الجماعات الدينية وعن السلوك؛ فالدين في نهاية المطاف يتمحور حول الإيمان ومسائل وأفكار لاهوتية بالإضافة إلى توجيهات أخلاقية توجه سلوك الناس لا يمكن حسابها بمقياس التكلفة والمنفعة الذي يشكل عصب التفكير لدى الاقتصاديين. وكمثال على ذلك فإنه قد يمتنع الشخص عن سرقة المال لتمسكه بمعتقده الديني، فحين يتصرف الناس تحت تأثير الوازع الديني فإنهم عادة لا يحسبون كُلفة هذه التصرفات أو فوائدها. وفي نظريته، يُشدد جيل على أن مصالح المواطنين والقادة الدينيين لا بُد وأن تؤخذ في الاعتبار عندما نحكي عن تطور الحرية الدينية، لكنه لا يُقدم دليلاً على أن هذه المصالح تلعب الدور الرئيسي، كما أنه لم يتناول دور الأفكار بشكل جدي وكافٍ. فالمعتقد الديني الذي يتمسك به الشخص قد يدفعه للتصرف في أحيان كثير ضد مصلحته الشخصية (المنفعة). أي أن الأفكار تلعب دورًا أكثر أهمية من حسابات المنفعة وهو ما قد يُعتبر من مساوئ تطبيق نظرية الاختيار العقلاني لدراسة تطور الحرية الدينية.

ومع هذا فإن نظرية الاختيار العقلاني أصبحت رائجة بين علماء الاجتماع الذين يدرسون الدين، وأحد أهم مساهمات أنطوني جيل هو تسليط الضوء على مساهمات كبار العلماء والاستفادة منها لفهم تطور الحريات الدينية. وقد أفرد المؤلف عدة صفحات في الفصول الأولى للتعريف بالمصطلحات الواردة في كتابه ولتوضيح بديهيات ومفاهيم النظرية التي ربطها بمصطلحات اقتصادية. وهو الأمر الذي سهل كثيراً على القارئ الحديث في هذا الجانب مسألة فهم واستيعاب المصطلحات الواردة دون أن يرتكز على فهمه الخاص بها حتى لا يوجد ذلك لبسًا بين ما يُريد المؤلف إيصاله، وبين ما يبنيه القارئ استنادًا على معرفته المسبقة. وعلى سبيل المثال فقد عرّف السلع الدينية بأنها إجابات أساسية لأسئلة فلسفية عميقة تحيط بالحياة، وعرّف الشركة الدينية (الطائفة الدينية) بأنها المنظمة التي تنتج السلع الدينية وتقوم بتوزيعها، أما السوق الدينية فهي الساحة الاجتماعية التي تتنافس فيها الشركات الدينية على حصتها من الأعضاء والموارد. كما توسع الكاتب في إيجاز القارئ بعدد من البديهيات والافتراضات التي ساقها للربط بين السياسة والحرية الدينية، فالسياسيون مهتمون قبل كل شيء وفوق أي شيء ببقائهم السياسي، كما أن الشركات الدينية هي مستغلة لحصص السوق وتحاول نشر رسالتها الروحية إلى أكبر عدد ممكن من الأتباع، كذلك يفترض جيل بأنه في البيئة التي يحكم فيها دين معين حصة الأكثرية فإنه سوف تميل كل الطوائف الدينية الأخرى نحو حرية الاختيار الديني، وأنه إذا كانت الكنيسة (وهي الحالة الدراسية في هذا الكتاب) مرتبطة بشكلٍ مؤسساتي مع الفئة السياسية الحاكمة فإنها ولا شك سوف تُحابي توجهات السلطة، ومن المحتمل أن تتم معاقبة الكنيسة ونزع التفضيل ومكافأة المنافسين لها في حال خسرت الطائفة السياسية سُلطتها وقوتها.

ومن أجل ذلك يتحول بنا المؤلف إلى بعض السياقات التاريخية. فبعد الانشقاق في الطوائف الدينية البروتستانتية في إنجلترا خلال القرن السابع عشر وما نجم عنه من اضطهاد وحرب داخلية أعاقت وأضعفت الاقتصاد وما ترتب عليه من صعوبة في توحيد الجزر البريطانية، أصدر الملك وليام أوف أورنج قانون التسامح في عام 1689م والذي جاء في الحقيقة ردًا على التسامح الديني الذي أظهره المنافس الاقتصادي اللدود المتمثل في هولندا، والتي ضمنت حقوق الأقليات وهو ما سهل عليها التواصل التجاري مع بقية الأمم وجعلها فوق ذلك ملجأً للفرق الدينية الهاربة من الحرب في انجلترا.

وشهدت الحوادث التاريخية على أمثلة من المحاباة لصالح مذهب أو طائفة دينية على حساب بقية الطوائف، فقد ضمن التاج الإسباني أن يكون دين واحد (الكاثوليك) هو المسموح به في المناطق الاستعمارية، وقد حظي مسؤولو الكنائس على نصيب واسع من الأراضي كما أنهم يُحاكمون في محاكم كنسية منفصلة بسبب المخالفات التي قد يرتكبونها، وفي مقابل ذلك فقد كان لملك إسبانيا صلاحيات تعيين مسؤولي الكنائس والتصديق النهائي على القرارات البابوية. هذا التنازل عن الحرية الدينية لصالح الدولة كان من المقبول به في سبيل المكانة التي تميز بها المذهب الكاثوليكي.

يقارن جيل هذه الأمثلة مع أخرى مناقضة من أمريكا الجنوبية. فالدستور الثوري في المكسيك لعام 1917م منع الكنيسة وبقية الطوائف الدينية من امتلاك أي أرض وأصبح رجال الدين مواطنين من الدرجة الثانية حيث تم منعهم من الترشح للمناصب أو التصويت، وهو ما أحدث لاحقاً سلسلة من الاضطرابات. لم يكن وضع الكنيسة أفضل حالاً في روسيا وبلدان أوروبا الشرقية، فالحكم الشيوعي نفّذ شروطًا مقيدة للحريات الدينية في محاولة لاجتثاث الممارسات الدينية للحد الذي أصبح فيه إقامة طقس ديني من الأمور النادرة حتى سقوط الاتحاد السوفييتي. وأصبحت مسألة الحرية الدينية مثار الاهتمام على المستوى الدولي خاصة في العقود المتأخرة من القرن الماضي وتكللت بالقرار الأممي (36/‏‏55) بشأن القضاء على كافة أشكال التعصب والتمييز. كما نشأت العديد من المنظمات المهتمة بتأكيد الحرية الدينية كمنظمات التحالف الدولي من أجل الحرية الدينية، ورابطة الحرية الدينية الدولية، ومعهد روذرفورد.

من الواضح إذًا أن الحرية الدينية هي مسألة تنظيم حكومي، وعلينا أن نتوقع أن تؤدي رغبات السياسيين وحوافزهم دورًا مهمًا ورئيسيًا في مستوى الحرية الدينية الذي ينبغي أن يُمنح. ففي نهاية الأمر فإن السياسيين والاقتصاديين مهتمين بشكلٍ كبيرٍ في زيادة الإيرادات التي تندرج تحت سلطتهم. وكلما زادت أهدافهم السياسية، الخيّرة كانت أم الدنيئة، أصبحوا بحاجة إلى إرضاء دوائر انتخابية معينة تضمن لهم استدامة البقاء وبالتالي التمتع بالمنافع السياسية والاقتصادية. هذا التعزيز لبقائهم السياسي يتم عن طريق الشرعية الأيديولوجية التي تتوفر بشكل طبيعي نتيجة للتعاون بين الكنيسة والدولة والتي تُعتبر المُنتج الوحيد في كثير من المجتمعات للأعراف وللقيم الاجتماعية. إذًا فقد ضمنت السياسة بهذا التعاون الحصول على الشرعية الأيديولوجية عن طريق موافقة وتعاون القادة الدينيين، الذين ولا شك سيكونون مستعدين للتخلي عن الحرية الدينية في سبيل المنفعة الناتجة من حيازة الممتلكات والتعيين في مناصب كنسية والحصول على إعانات مالية حكومية والمزيد من الامتيازات الأخرى.

ويتوسع أنطوني جيل في دراسته للبحث في التقييد الذي قد تمارسه الجماعات الدينية المتحكمة في تحديد حرية الجماعات والحركات الروحية الناشئة. فقد سعت الكنائس المهيمنة أثناء العصر الاستعماري إلى استخدام سلطة الدولة في تقييد حريات الأقليات الدينية الأخرى من أجل المحافظة على سلامة منظمتها وقوتها.

ختاماً، لقد سعى المؤلف إلى الوصول للجمهور الأوسع وذلك من خلال استخدام لغة سهلة، ولجأ إلى الاستعانة بالهوامش وملحق المفاهيم والتعريفات وذلك لتسهيل المادة المعروضة على القراء العاميين، خاصة أن كتاب كهذا مؤهلٌ بشكلٍ كبيرٍ ليكونَ حاضرًا في مناهج الجامعات والكليات. وقد نجح الكاتب من خلال الأمثلة التي ساقها والمنهج الذي اتبعه في الربط بين الحرية الدينية والنمو الاقتصادي بشكل علمي من خلال النظرية التي قدمها. وإضافة إلى ذلك، فإن استخدامه للبحث الدقيق والشمولية والرواية التأريخية في هذه الدراسة أهّله لاستنطاق التاريخ بينما يُقدم لنا نظرية فريدة من نوعها لفهم أصول الحرية الدينية. ومع أن استخدامه للرواية التاريخية من الممكن النظر إليه على أنه أمر جيد إلا أنه يبقى هناك حيز من الميل والانحيازات التي قد لا تخلو منها الدراسات التي تستنطق التاريخ. أما مدى إمكانية تطبيق وترجمة هذه النظرية لتشمل الدول الإسلامية فلم يتناولها الكاتب في عرضه، لذا فإن دراسات مستقبلية في أصول الحريات الدينية في دول العالم الإسلامي ستُثري -بلا شك- المعرفة وستضيف إلى هذا الحقل الذي أصبح سبر أغواره مهماً في ظل الوضع الذي تشهده منطقة الشرق الأوسط.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق